كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين.
فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإلى هاهنا بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و«إلى» بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] وقوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52].
{وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ}.
اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس.
فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب.
وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29].
وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب.
أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحًا أجزأه، واحتج بقوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ}، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي [اللسان] ماسحًا رأسه. فصار مؤديًا فرض الأمر.
والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس {فامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه.
قال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت ** زوراء تنفر عن حياض الديلم

ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه»، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس.
{وَأَرْجُلَكُمْ} اختلف القرّاء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبدالله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: {وأرجلكم} بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: قرأ عليّ الحسن والحسين فقرأا: وأرجلَكم بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وأرجلِكم بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
وقراءة عبد اللّه وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد اللّه يقرؤن: وأرجلكم نصبًا فيغسلون.
وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وأرجلكم بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلَكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضىء لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني.
وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرؤس على الإتباع بالجواز لفظًا لا معنى. كقول العرب «جحر ضب خرب» قال تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} [النساء: 75].
قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدًا سيفًا ورمحًا

والرمح لا يتقلد إنّما يحمل.
وقال لبيد:
وأطفلت بالجلهتين ** ظباؤها ونعامها

والنعام لا تطفل وإنما تفرخ.
وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار.
كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبّلَ رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه» وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال اللّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر.
قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد اللّه فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعله.
قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان.
وقول أنس: روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما.
فقال: صدق اللّه وكذب الحجاج، قال اللّه تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل.
وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلًا ويلغي ما كان مسحًا.
وقول عكرمة قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها.
وقول قتادة قال: إفترض اللّه غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضىء يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول اللّه عز وجل: {إِلَى الكعبين} فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح.
ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد اللّه بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فغسلوا أرجلهم.
وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل اللّه صلاة إمرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله».
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا.
وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على وجوب غسل الرجلين.
أبو يحيى عن عبد اللّه بن عمرو قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قوم عراقيبهم تلوح فقال: «أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار».
وقال حميد الطويل: رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعمى يتوضأ فقال: «إغسل باطن قدميك» فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل.
روى أبو قلابة أن عمر رضي الله عنه رأى رجلًا يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: لإن تقطعا أحبّ إلّي من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين.
وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتىء من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة.
ودليلنا قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذِكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رِجل كعبين ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للمحرم: «فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس [خفّين] وليقطعهما أسفل من الكعبين».
فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتىء من ظهر القدم لكان إذا قُطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه.
ويدل عليه ما روي أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم إنه مرّ في سوق مكّة يقول: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا».
وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه.
فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أُدمي، إذ رميت من ورائه.
ويدل عليه ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ اللّه بين قلوبكم»، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «ويل للأعقاب والعراقيب من النار» أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين.
وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم اللّه وجهه قال: بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ من كان نبيًّا مرسلا وملكًا مقرّبًا. فقال صلى الله عليه وسلم «سلوني تفقهًا ولا تسألوني تعنّتًا» فقالوا: يا محمد أخبرنا لِمَ أمر اللّه بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر اللّه عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر اللّه عنه الخطيئة فافترضهنّ اللّه على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء».
قالوا: صدقت، فأسلموا.
فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعًا واحدًا بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله} [البقرة: 158].
قال جابر بن عبد اللّه: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحج وذكر الحديث إلى أن قال: فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وقال: «ابدأوا بما بدأ اللّه به» فدّل هذا على شيئين: أحدهما: أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلاّ أن يقوم الدليل.
واحتج أيضًا بقوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] فالركوع قبل السجود، واحتج أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم «لا يقبل اللّه صلاة امرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه» و«ثم» في كلام العرب للتعقيب.
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد اللّه بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد اللّه: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثًا ويديه ثلاثًا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامدًا، أعاد وضوءه فإن تركه ناسيًا لم يعد، وهو اختيار المزني.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهيًا أو عامدًا فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين} [التوبة: 60] ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. ويحرم تقديم أحدهما على الآخر. اهـ.